الداعية اليمني المهندس محمد المقرمي في ذمة الله
في مشهدٍ مهيبٍ ورهيب اختلط فيه الحزن والذهول بالرضا، تلقّى الوسط الدعوي والتربوي في اليمن وخارجها نبأ وفاة فضيلة الشيخ الداعية المهندس محمد المقرمي – رحمه الله تعالى – فجر يوم الأربعاء الموافق 26 تشرين الثاني / نوفمبر 2025م، في الديار المقدسة، في مشهدٍ استحضرت فيه القلوب معاني الخاتمة الحسنة، بعد مسيرةٍ عامرة بالصدق والدعوة إلى الله.
وقد وافته المنية في لحظة فراغه من الاستعداد لصلاة الفجر في مدينة جدة، وذلك بعد رحلةٍ دعوية أخيرة شملت تركيا ومصر والسعودية؛ وقد ووري الثرى في المدينة نفسها، مودَّعًا بالدعاء والدموع، في واحدة من أكثر لحظات الوداع تأثيرًا في نفوس محبيه وتلامذته.
وكانت الجامعة الإسلامية بمنيسوتا المركز الرئيسي قد نعت الفقيد في بيانٍ رسمي، تقدّمت فيه بأحرّ مشاعر العزاء والمواساة إلى علماء الأمة وطلاب العلم وعموم المسلمين، سائلةً المولى عزّ وجل أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وأن يُلهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان، مجددةً التسليم بقوله تعالى: «إنا لله وإنا إليه راجعون».
وفي كلماتٍ يفيض منها الرضا مختلطًا بالوجع، كتب الدكتور عمر المقرمي وكيل الجامعة الإسلامية بمنيسوتا رئيس المركز الرئيسي مستحضرًا روح الفقيد ومنهجه في الحياة: “عاش الشيخ محمد المقرمي رحمه الله وهو يغرس في النفوس حب الله واليقين به، وتفويض كل الأمور إليه، فدبر الله له أمره في حياته ومماته، وأحسن خاتمته ووفاته… اللهم إنه بين يديك فآنس وحشته، واجعل القرآن الذي قضى حياته متدبرًا فيه شفيعًا وأنيسًا له في قبره”.
وفي منشورٍ آخر، استعاد الدكتور المقرمي إحدى آخر كلمات الفقيد التي بدت وكأنها وصية مودِّع: “إذا متنا سنلتقي في الجنة بإذن الله؛ انتبهوا يا أبنائي تضيعوا الطريق”، ليرد الدكتور المقرمي بقوله : “لن نخلف الطريق ولن نضيعها بإذن الله… حتى نلتقي في الجنة”.
أما في بيان النعي الذي كتبه الدكتور عمر، فقد وصف فيه لحظة الفقد قائلًا: “فُجعت اليوم قلوبنا وأرواحنا بنبأ وفاة فضيلة الشيخ الداعية محمد المقرمي، المهندس الذي اختار طريق الدعوة، واختاره الله إليه في أطهر بقاع الأرض… بعد أن قضى جلّ عمره في ريف قريتنا المقارمة متنقلًا بين جبالها ووديانها داعيًا إلى الله”.
رحلته الأخيرة… من عدن إلى إسطنبول ثم إلى الديار المقدسة
وفي تفاصيل رحلته الأخيرة، أفادت المصادر المقرّبة أن الشيخ – رحمه الله – كان قد غادر عدن إلى إسطنبول للمشاركة في تسجيل برنامج دعوي ترعاه وزارة الأوقاف اليمنية بعنوان: (يمانيون حول الرسول)، وهو برنامج من المقرر أن يُعرض في القنوات اليمنية الرسمية خلال شهر رمضان.
وبعد انتهاء مشاركته في تسجيل البرنامج، توجّه إلى مصر ثم المملكة العربية السعودية؛ وبعد أداء مناسك العمرة وزيارة المدينة المنورة، اختاره الله إلى جواره في تلك الرحلة المباركة، في خاتمةٍ جمعت بين الدعوة والعبادة، وبين العمل لله والوفاة في أحبّ البقاع إليه.
تفاعل واسع ومجالس عزاء ممتدة
ما إن شاع خبر وفاة الشيخ حتى تحوّلت منصات التواصل الاجتماعي – وعلى رأسها فيسبوك – إلى ساحات عزاء مفتوحة، ضجّت بآلاف المنشورات والتعليقات التي عبّرت عن صدمة واسعة وحزنٍ عميق، من علماء ودعاة وطلاب علم وشباب تأثروا بخطابه، وأهالٍ عرفوه في القرى والجبال.
وتدفقت الشهادات في حقه، ودُبجت المراثي شعرًا ونثرًا تبكيه، وتناقل الناس مقاطع من دروسه، وأعادوا نشر خطبه ومواعظه، في مشهدٍ عكس عمق أثره في القلوب، واتساع رقعة محبيه داخل اليمن وخارجها.
وعلى الأرض، أُقيمت مجالس عزاء عديدة لأقربائه ومحبيه في قريته المقارمة وفي المدن اليمنية المختلفة، وعدد من المدن السعودية، وصلوا عليه صلاة الغائب حتى في الصين، وشهدت قاعات التعازي حضورًا كبيرًا من مشايخ ووجهاء وطلاب علم ومواطنين من مختلف المناطق، في صورة مؤثرة عبّرت عن مكانته الرفيعة في النفوس.
سيرة علمية من جامعة البترول إلى منابر الدعوة
وُلد الشيخ محمد المقرمي عام 1960م، ونشأ في قرية المقارمة في بيئة ريفية بسيطة، وتشرب حب القرآن الكريم منذ صغره، قبل أن يشق طريقه العلمي خارج الوطن، حيث التحق بـجامعة البترول والمعادن في مدينة الظهران بالمملكة العربية السعودية، ودرس فيها الهندسة الكهربائية.
وبعد تخرجه، عمل في مطار الحديدة كمهندس مسؤول عن الصيانة، فترة من الزمن، غير أن نداء الدعوة كان أقوى من كل المسارات المهنية، فاختار – بإرادة واعية – أن يبدأ رحلة تدبرية للقرآن الكريم في قريته، تزامنت مع جهد دعوي فيها وفي القرى المحيطة بها، منطلقًا في ميدان الدعوة دون ضجيج، وبلا سعي إلى شهرة أو أضواء.
خطاب دعوي صادق وتجربة ميدانية مؤثرة
تقاطعت شهادات رفقائه في الدعوة، وتلامذته، وأهالي القرى التي طاف بها، على أن الشيخ المقرمي لم يكن داعية منبر فحسب، بل كان داعية ميدان، يجوب الجبال والوديان، ويجلس مع عامة الناس، يخاطبهم بلغة قريبة من القلوب، ويربطهم بالله قبل كل شيء.
وتميّز خطابه الدعوي بعدة سمات بارزة، من أبرزها، التركيز العميق على التوحيد العملي واليقين والتوكل، والحضور الدائم للقرآن في دروسه ومجالسه، والبساطة والصدق والبعد عن التكلّف، ومعالجة القلوب ببلسم الصدق والإخلاص، من خلال خطاب يتسم بالجاذبية، وهدوء الأسلوب وعمق الأثر التربوي والنفسي.
من الواقع إلى المواقع
ومع اتساع الفضاء الرقمي، انتقلت دعوته إلى العالم عبر قناتين باسمه في يوتيوب، ضمّتا عشرات الدروس والمواعظ والتأملات الإيمانية، فشكّل بذلك إرثًا دعويًا مرئيًا باقي الأثر، ما يزال الناس ينتفعون به حتى بعد رحيله.
وبرحيل الشيخ محمد المقرمي – رحمه الله – طُويت صفحة جسد، لكن فُتحت في سجلّ الذاكرة صفحات الأثر، وبقي صوته في الدروس، وكلماته في التسجيلات، ويقينه في القلوب، ورسائله الإيمانية عبر قناتيه على يوتيوب.
لقد رحل الجسد، وبقي النهج والأثر، والدعوة الشاهدة على صدق رجلٍ سار إلى الله، ومات في طريقه.
