ميسر سلامة ومحمد عابد وسط القيامة
لا يخفى على أحد في الدنيا ما ينزل على رؤوس أهل قطاع غزة من حمم تُصب فوق رؤوسهم دون أي مراعاة لأبسط قواعد القانون الدولي الذي يكفل حماية المدنيين في مناطق النزاع، كما يعلم العالم كله مدى بشاعة المذابح المرتكبة التي أودت حتى كتابة هذا الخبر بأكثر من سبعة آلاف شهيد، معظمهم من النساء والأطفال الذين بلغوا أكثر من ٤٠٠٠ طفل بريء لا ناقة لهم ولا جمل سوى وجودهم في هذا العالم الذي يسوده قانون الغاب.
في هذه الظروف الرهيبة قررت زميلتنا في الجامعة الدكتورة ميسر سلامة المدير التنفيذية لمركز التدريب والتطوير والبرامج المجتمعية، أن تواصل العمل على رأس المركز مصممة على تجاوز كل العقبات التي تنشأ في بيئة (إبادة جماعية) حقيقية، كما وصفتها مقاطع الفيديو التي ملأت الفضاء السيبراني، والتي حطمت الأسوار التي وضعت في طريقها إلى الرأي العام العالمي.
(كان الثمن - المدفوع للصمود - غاليا، يدفع من أشلاء الأطفال والنساء وانقطاع الكهرباء والماء وقصف على أهل قطاع غزة في الليل والنهار، وما كنت عن هذا ببعيد؛ بل أعيش في قلب الحدث، وأنا أقطن في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة؛ فكان واجباً علي وأنا أردد قول رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) فمن تحت القصف آثرت نشر العلم، ومواصلة العمل في مركز التدريب والتطوير والبرامج المجتمعية في الجامعة الإسلامية بمنيسوتا المركز الرئيسي، والبحث عن بدائل في ظل انقطاع شبكة الانترنت في البيت، بتوفير بطاقات إنترنت لاسلكي عن طريق الموزع، الذي يضع نقاط تجمعها على أعمدة الكهرباء، في الشارع المقابل للبيت، فكنت أقف الساعات الطوال بجانب باب البيت المقابل لنقاط تجميع الانترنت، وفي التنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن التقاط إشارة الإنترنت في سبيل متابعة العمل، والتواصل مع العالم، وفي ظل هذا الحال، كان لا يفارقنا القصف المتواصل في الليل والنهار، يهتز البيت وتتناثر شظايا الصواريخ في كل مكان، وتتصاعد أعمدة الدخان، وتنتشر في كل أرجاء البيت؛ ولقد فقدت عددا من الصديقات والأحباب ممن رافقتهم في الحي، فلم يثن الحزن عليهم من عزيمتي، في مواصلة العمل).
في الخطاب الذي أرسلت به ل(صدى الجامعة) هكذا وصفت الدكتورة ميسر سلامة الظروف التي عاشتها بداية المذبحة، وملابسات القرار الذي اتخذته بعدم ترك العمل في الجامعة، والدوافع التي جعلتها تتخذ هذا القرار الصعب، الذي لم يقو على اتخاذه آلاف المتعاطفين من العرب والمسلمين الذين علقوا وخففوا كثيرا من أنشطتهم، على وقع الهول القادم ملء العين والأذن من داخل الجحيم الذي قرر المستكبرون صبها على أكثر من مليوني إنسان بقطاع غزة.
وتضيف ميسر سلامة، في سرديتها القصيرة التي هي واحدة من ألوف الملاحم التي سطرها شعب تربى على معنى الحياة بشموخ: (من المواقف التي لا تنسى، في أثناء الإعداد لملتقى علمائي نصرة لأهل غزة .. وخلال يومين متواصلين، وبرفقة مهندسنا الفاضل المهندس المعتصم المقرمي، شريكي في الإعداد والتواصل، الإنترنت عندي كان ضعيفا جداً فلا استطيع التحميل، فاقتصرت لمتابعة العمل على الكتابة في الواتساب؛ وقررت البحث عن مكان فيه إنترنت قوي قبل تنفيذ الملتقى بيوم، حتى أستطيع القيام بعملي على أكمل وجه، وأكون في نفس الحدث، فانتقلت إلى منطقة أخرى، وسرت في طريق طويل، تحت أزيز الطيران وقصفه المتواصل، وهدفي إنجاز عمل احتسبت اجره عند الله عز وجل .. وبعد انتقالي إلى بيت آخر، ومهما قلت؛ تعجز الكلمات عن وصف يوم ١٧ أكتوبر "يوم تنفيذ الملتقى" فكعادتي كنت بجانب الباب أتابع آخر مستجدات الملتقى العُلمائي قبيل انطلاقه بسويعات مع المهندس المعتصم في مركز التدريب، وعلى بعد أمتار قليلة منا، قُصف بيت في الحي وتطاير كل شيء، وامتلأ الدخان في كل مكان .. لقد كان ثاني بيت قريب منا جداً، يقصف وفيه شهداء وأشلاء وجرحى ودمار في الحي، فانتظرت حتى هدأ الطريق من ازدحام المنقذين، حيث كان لازماً لي مواصلة عملي الذي بدأته وانتقلت إلى مكان آخر فيه إنترنت وأستطيع أن افتح فيه برنامج الزووم لأنقل رسالة أهل غزة إلى العالم.. كان الطريق طويلا فلم أجد وسيلة مواصلات؛ فسرت على الأقدام تحت القصف، في لحظات مخيفة قضيتها بين الذكر والاستغفار، بل كنت أردد الشهادتين مع خلو بعض أجزاء الطريق من المارة، وفي النهاية تم الملتقى بفضل الله على أكمل وجه).
وتتابع ميسر سلامة مختزلة وصف أيامها بعبارات بسيطة لكنها ممتدة الدلالة ومفتوحة الأبعاد: (القصف المتواصل لم يوقفني بفضل الله عن المواصلة) .. ويبدو أن الكلمات لا تسعفها، فتقتصر على القليل منها : (الواقع يشيب من هوله رأس الوليد) وفي هذا الخضم، لم تنس ميسر سلامة ولم تعف نفسها مما تراه واجبا : (وهنا يلزمني استنادا إلى قول النبي ﷺ [من لا يشكر الناس لا يشكر الله] أن أقدم شكري وتقديري لمن كان يعيش معي هذا الهول لحظة بلحظة مساعدي في إدارة مركز التدريب مهندسنا الغالي المعتصم فائز المقرمي، وحبيبتي وأختي ورفيقتي التي كان لوجودها بصمة د. فاطمة جمعة الوحش مديرة وحدة الجودة والتطوير في الجامعة، والشكر موصول إلى ربان السفينة وقائدها دكتورنا الفاضل وكيل الجامعة عمر أحمد المقرمي، حفظهم الله ورعاهم، والشكر كذلك إلى الإخوة والأخوات الكرام من مديري وحدات وعمداء كليات ورؤساء اقسام وأعضاء هيئة تدريسية وكوادر عاملة في هذه الجامعة الغراء.. شكرا لكم جميعا على حسن سؤالهم عني الإطمئنان علي).
وفي هذا الإطار، وبذات الاختزال الذي يغني عن كثرة كلام تراه النفوس المكلومة عبثا لا طائل من ورائه، يقول المهندس المعتصم فائز مساعد الدكتورة ميسر في مركز التدريب تعليقا على هذا الخطاب: (في مراسلاتي اليومية مع الدكتور ميسر سلامة صار من المعتاد - غير العادي - رؤية رسالتها النصية المتكررة "الآن قصف قريب من منزلنا") متمتما بترنيمة طالما شاعت في زمكاننا الحاضر (ما لهم غيرك يا الله).
وضمن هذا السياق يجب ألا ننسى أن للجامعة موظفا آخر في قطاع غزة، هو المهندس محمد عابد، من قسم المونتاج في المركز الإعلامي، وعضو فريق المركز الإعلامي، وبحسب المعلومات التي حصلت عليها الدكتورة مي محمد المشرفة على المركز، المهندس محمد عابد كان يعمل مع المركز هو الآخر تحت القصف، حتى تم قصف منزله فذهب لمدرسة من مدارس الأنروا.
ختاما : حررت الدكتورة ميسر كلماتها بعد مرور ٢١ يوما على القصف الجهنمي، تحديدا بوم الجمعة الموافق ٢٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠٢٣م، وهو ذات اليوم الذي علمت الصحيفة بأخبار محمد عابد؛ ونحن إذ نجهل الظروف التي يعيش فيها محمد عابد، كما لا يمكن أن نتنبأ ما الذي قد يحدث للدكتورة ميسر بعد ساعة، هنا لابد من التشديد على أن الجامعة الإسلامية بمنيسوتا المركز الرئيسي بإدارتها وكادرها الأكاديمي وكادرها الوظيفي وطلابها وطالباتها وكافة منتسبيها يؤكدون تضامنهم مع الدكتورة ميسر سلامة والمهندس محمد عابد وكافة الأهل في قطاع غزة، ويلهجون إلى الله بالدعاء ويرفعون إليه أكف الضراعة ألا يقع نظر القراء على هذا التقرير، إلا وقد رفع الله عنهم البلاء وكتب لهم السلامة والكرامة.